فصل: تفسير الآيات (9- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (81- 85):

{وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)}
{وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} دلائل قدرته، {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ}.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ} يعني: مصانعهم وقصورهم، {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} لم ينفعهم، {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وقيل: هو بمعنى الاستفهام، ومجازه: أي شيء أغنى عنهم كسبهم؟
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا} رضوا {بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} قال مجاهد: هو قولهم نحن أعلم، لن نبعث ولن نعذب، سمي ذلك علمًا على ما يدعونه ويزعمونه وهو في الحقيقة جهل. {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} يعني: تبرأنا مما كنا نعدل بالله.
{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} عذابنا، {سُنَّةَ اللَّهِ} قيل: نصبها بنزع الخافض، أي: كسنة الله. وقيل: على المصدر. وقيل: على الإغراء أي: احذروا سنة الله {الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} وتلك السنة أنهم إذا عاينوا عذاب الله آمنوا، ولا ينفعهم إيمانهم عند معاينة العذاب. {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} بذهاب الدارين، قال الزجاج: الكافر خاسر في كل وقت، ولكنهم يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب.

.سورة فصلت:

مكية.

.تفسير الآيات (1- 5):

{حم (1) تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)}
{حم تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الأخفش: {تنزيل} مبتدأ، وخبره قوله عز وجل: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}. {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} بينت آياته، {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} اللسان العربي، ولو كان بغير لسانهم ما علموه ونصب قرآنًا بوقوع البيان عليه أي: فصلناه قرآنًا.
{بَشِيرًا وَنَذِيرًا} نعتان للقرآن أي: بشيرًا لأولياء الله، ونذيرًا لأعدائه، {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} لا يصغون إليه تكبرًا.
{وَقَالُوا} يعني مشركي مكة، {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} في أغطية، {مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} فلا نفقه ما تقول، {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} صمم فلا نسمع ما تقول، والمعنى: إنا في ترك القبول عندك بمنزلة من لا يفهم ولا يسمع، {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} خلاف في الدين وحاجز في الملة فلا نوافقك على ما تقول، {فَاعْمَلْ} أنت على دينك، {إِنَّنَا عَامِلُونَ} على ديننا.

.تفسير الآيات (6- 8):

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)}
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} يعني كواحد منكم ولولا الوحي ما دعوتكم، وهو قوله: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} قال الحسن: علمه الله التواضع، {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} توجهوا إليه بالطاعة ولا تميلوا عن سبيله، {وَاسْتَغْفِرُوهُ} من ذنوبكم، {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ}.
{الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} قال ابن عباس: الذين لا يقولون لا إله إلا الله وهي زكاة الأنفس، والمعنى: لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد. وقال الحسن وقتادة: لا يقرون بالزكاة، ولا يرون إيتاءها واجبًا، وكان يقال: الزكاة قنطرة الإسلام فمن قطعها نجا ومن تخلف عنها هلك. وقال الضحاك ومقاتل: لا ينفقون في الطاعة ولا يتصدقون. وقال مجاهد: لا يزكون أعمالهم {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قال ابن عباس: غير مقطوع. وقال مقاتل: غير منقوص، ومنه {المنون} لأنه ينقص مُنَّة الإنسان وقوته، وقيل: غير ممنون عليهم به. وقال مجاهد: غير محسوب.
وقال السدي: نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى، إذا عجزوا عن الطاعة يكتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون فيه.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن عاصم بن أبي النجود عن خيثمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة، ثم مرض قيل للملك الموكل به: اكتب له مثل عمله إذا كان طليقًا حتى أطلقه أو أكفته إليّ».

.تفسير الآيات (9- 11):

{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)}
قوله عز وجل: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} يوم الأحد والاثنين، {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
{وَجَعَلَ فِيهَا} أي في الأرض، {رَوَاسِيَ} جبالا ثوابت، {مِنْ فَوْقِهَا} من فوق الأرض، {وَبَارَكَ فِيهَا} أي: في الأرض، بما خلق فيها من البحار والأنهار والأشجار والثمار، {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} قال الحسن ومقاتل: قسم في الأرض أرزاق العباد والبهائم. وقال عكرمة والضحاك: قدر في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد. قال الكلبي: قدر الخبز لأهل قطر، والتمر لأهل قطر، والذرة لأهل قطر، والسمك لأهل قطر، وكذلك أقواتها. {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} يريد خلق ما في الأرض، وقدر الأقوات في يومين يوم الثلاثاء والأربعاء فهما مع الأحد والاثنين أربعة أيام، رد الآخر على الأول في الذكر، كما تقول: تزوجت أمس امرأة واليوم ثنتين، وإحداهما هي التي تزوجتها بالأمس، {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} قرأ أبو جعفر {سواء} رفع على الابتداء، أي: هي سواء وقرأ يعقوب بالجر على نعت قوله: {في أربعة أيام}، وقرأ الآخرون {سواء} نصب على المصدر، أي: استوت سواء أي: استواء، ومعناه: سواء للسائلين عن ذلك. قال قتادة والسدي: من سأل عنه فهكذا الأمر سواء لا زيادة ولا نقصان جوابًا لمن سأل: في كم خلقت الأرض والأقوات؟
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} أي: عمد إلى خلق السماء، {وَهِيَ دُخَانٌ} وكان ذلك الدخان بخار الماء، {فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أي: ائتيا ما آمركما أي: افعلاه، كما يقال: ائت ما هو الأحسن، أي: افعله.
وقال طاووس عن ابن عباس: ائتيا: أعطيا، يعني أخرجا ما خلقت فيكما من المنافع لمصالح العباد.
قال ابن عباس: قال الله عز وجل: أما أنت يا سماء فأطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وأنت يا أرض فشقي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتك، وقال لهما: افعلا ما آمركما طوعًا وإلا ألجأتكما إلى ذلك حتى تفعلاه كرها فأجابتا بالطوع، و{قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} ولم يقل طائعتين، لأنه ذهب به إلى السموات والأرض ومن فيهن، مجازه: أتينا بما فينا طائعين، فلما وصفهما بالقول أجراهما في الجمع مجرى من يعقل.

.تفسير الآيات (12- 14):

{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنزلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)}
{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} أي: أتمهن وفرغ من خلقهن، {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} قال عطاء عن ابن عباس: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلمه إلا الله.
وقال قتادة والسدي: يعني خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها.
وقال مقاتل: وأوحى إلى كل سماء ما أراد من الأمر والنهي، وذلك يوم الخميس والجمعة.
{وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} كواكب، {وَحِفْظًا} لها ونصب {حفظًا} على المصدر، أي: حفظناها بالكواكب حفظًا من الشياطين الذين يسترقون السمع، {ذَلِكَ} الذي ذكر من صنعه، {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} في ملكه، {الْعَلِيمِ} بحفظه. قوله عز وجل: {فَإِنْ أَعْرَضُوا} يعني: هؤلاء المشركين عن الإيمان بعد هذا البيان، {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ} خوفتكم، {صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} أي: هلاكًا مثل هلاكهم، والصاعقة المهلكة من كل شيء.
{إِذْ جَاءَتْهُمُ} يعني: عادا وثمودا، {الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أراد بقوله: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} الرسل الذين أرسلوا إلى آبائهم من قبلهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} يعني: ومن بعد الرسل الذين أرسلوا إلى آبائهم الذين أرسلوا إليهم، هود وصالح، فالكناية في قوله: {من بين أيديهم} راجعة إلى عاد وثمود وفي قوله: {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} راجعة إلى الرسل {أَنْ لا} بأن لا {تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنزلَ} بدل هؤلاء الرسل، {مَلائِكَةً} أي: لو شاء ربنا دعوة الخلق لأنزل ملائكة، {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، حدثنا عبد الله بن حامد الأصفهاني، حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي، أخبرنا أحمد بن مجدة بن العريان، حدثنا الحماني، حدثنا ابن فضيل، عن الأجلح، عن الذيال بن حرملة، عن جابر بن عبد الله قال: قال الملأ من قريش وأبو جهل: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالمًا بالشعر والكهانة والسحر، فأتاه فكلمه، ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر، وعلمت من ذلك علمًا، وما يخفى عليّ أن كان كذلك أو لا فأتاه فلما خرج إليه قال: يا محمد أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فبم تشتم آلهتنا؟ وتضلل آباءنا؟ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك ألويتنا فكنت رأسًا ما بقيت، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش، وإن كان بك المال جمعنا لك ما تستغني أنت وعقبك من بعدك؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم، فلما فرغ، قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم {حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته} إلى قوله: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} الآية. فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ورجع إلى أهله، ولم يخرج إلى قريش فاحتبس عنهم فقال أبو جهل: يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى دين محمد، وقد أعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إليه، فانطلقوا إليه، فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى دين محمد وأعجبك طعامه، قال: فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمدًا أبدا، وقال: والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، وقرأ السورة إلى قوله: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} الآية فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب.
وقال محمد بن كعب القرظي: حدثت أن عتبة بن ربيعة كان سيدًا حليمًا، قال يومًا وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد وأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل منا بعضها، فنعطيه ويكف عنا، وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وعبت آلهتهم، وكفرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد، فقال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد شرفًا سودناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيًا تراه لا تستطيع رده طلبنا لك الطب، ولعل هذا شعر جاش به صدرك، فإنكم لعمري بني عبد المطلب يقدرون على ذلك على ما لا يقدر عليه غيركم، حتى إذا فرغ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو قد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاستمع مني، قال: أفعل، فقال صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم {حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنًا عربيًا}، ثم مضى فيها يقرأ، فلما سمعها عتبة أنصت له، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه، حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد، ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد فأنت وذاك، فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ فقال: ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت بمثله قط، ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني، خلوا ما بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، فأنتم أسعد الناس به، فقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي لكم، فاصنعوا ما بدا لكم.